الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
ففي تاريخ الأفراد والأمم والجماعات أحداث لها أثرها ودورها البالغ في تغيير دفة الحياة وتاريخ أمتنا- التي نعتز بها ونفتخر- يزخر بالأحداث العظام التي غيرت وجه التاريخ، ولعل من أبرزها وأعظمها أثرًا على الإطلاق في حياة الأمة حادث الهجرة المباركة، فالهجرة لم تكن حدثًا عاديًا ولا عابرًا كغيره من أحداث التاريخ، بل كانت بمثابة محور الارتكاز ونقطة الانطلاق والتحول، والحد الفاصل في مصير هذا الدين العظيم ومساره، وإيذانًا بميلاد فجر جديد لدولة التوحيد، أشرق على الكون نوره بعد مخاض ليل طال على الأتباع معاناته وآلامه.
ونظرًا لهذه المكانة السامية التي تبوأتها الهجرة النبوية واحتلتها كأعظم حدث في تاريخ الدعوة الإسلامية، فقد اعتبره المسلمون الأوائل معلمًا بارزًا من أهم معالم حضارتهم، فأرخوا به لأحداثهم ووقائعهم، ولم يؤرخوا بتأريخ غيرهم، حفاظًا على هويتهم واستقلالهم وتميزهم.وحَدَثٌ هذا شأنه حري بنا وجدير أن نقف على معانيه، نستلهم منه الدروس والعظات والعبر.
أولاً: الهجرة سنة ماضية:
فبهذه الهجرة تمت لرسولنا صلى الله عليه وسلم سنة إخوانه من الأنبياء، فما من نبي منهم إلا نَبَتْ به بلاد نشأته وأخرجه أهلها فهاجر عنها من لدن إبراهيم عليه السلام أبي الأنبياء وخليل الله، إلى عيسى كلمة الله وروحه، كلهم على عظيم درجاتهم ورفعة مقامهم- أهينوا من عشائرهم، فصبروا ليكونوا مثالاً لمن يأتي بعدهم من متبعيهم في الثبات والصبر على المكاره ما دام ذلك في ذات الله.
قال تعالى: وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا {إبراهيم: 13}،
وقال تعالى عن قوم لوط: فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون {النمل: 56}،
وقال تعالى عن نبينا صلى الله عليه وسلم : وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين {الأنفال: 30}.
ولذلك قال ورقة بن نوفل للنبي صلى الله عليه وسلم : "ليتني فيها جذع ليتني أكون حيّا إذ يخرجك قومك". فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "أَوَ مخرجي هم؟" قال: نعم؛ لم يأت رجلٌ قط بمثل ما جئت به إلا عودي".
{الحديث رواه البخاري (1-30، 31)}
ثانيًا: في الهجرة تأمين للدعوة وحماية للدين:
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يخرج من بين قومه إلا بعد أن تمالأ المشركون على قتله، منعًا له من الدعوة إلى الحق، كما أوصلوا إليه ما لا يحتمله غيره من الأذى، وفي هذا عبرة لمن دعا إلى دينه أن يصبر على أذى المدعوين، حتى يخشى على نفسه الهلاك فيفر بدينه إلى حيث يرجو أن تثمر دعوته.
فحيثما كان العبد في مكان لا يتمكن فيه من إظهار دينه، فإن له متسعًا وفسحة من الأرض يتمكن فيها من عبادة الله.
هجرة الموحدين المضطهدين.. جهاد لا فرار:
فهجرة الموحدين المضطهدين بدينهم في كل زمان ومكان ليست هروبًا ولا نكوصًا ولا هزيمة، إنما هو تربص بأمر الله، حتى يأتي أمر الله.
فقد خرج أصحاب الكهف من الدنيا على رحابتها إلى كهف ضيق فرارًا بدينهم، واعتزالاً للشر وأهله، وخروجًا من الواقع السيئ، وطلبًا للسلامة، فكانت هجرتهم محمودة ومشروعة، وكذلك فعل الصحابة رضوان الله عليهم هاجروا من مكة إلى الحبشة مرتين، ثم هاجروا إلى المدينة تاركين أوطانهم وأرضهم وديارهم وأهاليهم، رجاء السلامة بالدين والنجاة من فتنة الكافرين.
لذلك فإن الهجرة تعلمنا درسًا هامًا، وهو كيف أن على الدعاة إلى الله أن يبحثوا دائمًا عن أماكن خصبة للدعوة.
ثالثًا: العقيدة هي الدافع والأساس:
أثبتت الهجرة النبوية أن الدعوة والعقيدة يتنازل لهما عن كل حبيب وعزيز وأليف وأنيس، وعن كل ما جبلت الطباع السليمة على حبه وإيثاره والتمسك به والتزامه، ولا يتنازل عنهما لشيء.
وقد كانت مكة- فضلاً عن كونها مولدًا ومنشأ للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه- مهوى الأفئدة والقلوب ففيها الكعبة البيت الحرام الذي جرى حبه منهم مجرى الروح والدم، ولكن شيئًا من ذلك لم يمنعه وأصحابه من مغادرة الوطن ومفارقة الأهل والسكن حين ضاقت الأرض على هذه الدعوة والعقيدة وتنكر لها أهلها، وقد تجلت هذه العاطفة المزدوجة عاطفة الحنين الإنساني وعاطفة الحب الإيماني في كلمته التي قالها مخاطبًا مكة: "والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت". {صحيح الترمذي: 3082}. وذلك عملاً بقوله تعالى: يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون {العنكبوت: 56}.
رابعًا: معية الله وحفظه وتأييده لأنبيائه وأوليائه:
قال الله تعالى: إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم {التوبة: 40}،
فالله عز وجل أرحم بنبيه وصاحبه من أن يجعلهما نهبًا لعدوهما، كما تؤكد الآية كذلك حماية الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ونصره وتأييده حين تخلت عنه قوة الأرض، والجنود التي يخذل بها الباطل وينصر بها الحق ليست مقصورة على نوع معين من السلاح ولا صورة خاصة من الخوارق، إنها أعم من أن تكون مادية أو معنوية، وإن كانت مادية فإن خطرها لا يتمثل في فخامتها، فقد تفتك جرثومة لا تراها العين بجيش عظيم، وما يعلم جنود ربك إلا هو {المدثر: 31}.
الموضوع الأصلى من هنا: http://bayt.el-emarat.com/#108892#post1614693
فتعمية أبصار المشركين عن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه في غار "ثور" وهم عنده، مثل تخشع له القلوب من أمثلة عناية الله بأنبيائه ورسله ودعاته وأحبائه، فما كان الله ليوقع رسوله صلى الله عليه وسلم في قبضة المشركين، فيقضوا عليه وعلى دعوته، وهو الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وليس في نجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه بعد أن أحاط بهما المشركون في غار ثور إلا تصديق قوله تعالى: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد {غافر: 51}، وقوله تعالى: إن الله يدافع عن الذين آمنوا {الحج 38}.
فالدعاة إلى الله بحاجة دائمًا إلى أن يكون راسخًا في أعماقهم عون الله لهم حين تعجز قوتهم البشرية عن إدراك ما يخطط لهم العدو بعد استنفاد الطاقة واستفراغ الوسع، وأن تكون لديهم القناعة التامة، أن النصر أولاً وأخيرًا من عند الله. قال تعالى: وما النصر إلا من عند الله {آل عمران:126}.
خامسًا: يتجلى في الهجرة بروز عنصر التخطيط وأهميته في حياة المسلمين:
فكان الهدف محددًا والوسائل كذلك والعقبات مأخوذة بالحسبان واختيار الطريق والمكان والتموين ومن يحمل الأخبار والدليل، كل ذلك مُؤَمَّنٌ مع إحاطة ذلك بالسرية والحيطة والحذر، وكل ذلك ينبئ عن تخطيط وتنظيم وترتيب لا مثيل له.
الأخذ بالأسباب والتوكل على الله
فالأخذ بالأسباب مطلوب ومشروع ولا ينافي ذلك الإيمان والتوكل على الله، فعدم الأخذ بالأسباب قدح في التشريع، والاعتماد على الأسباب قدح في التوحيد، لذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أحكم خطة هجرته وأعد عدته، فأعد الراحلتين وترك عليًا مكانه، وسلك الطريق الجنوبي للتغرير بالمشركين، واستأجر ماهرًا خبيرًا يدله على الطريق، وكانت أسماء رضي الله عنها تأتيهما بالطعام، ودخل غار ثور، فعل ذلك وهو النبي المؤيد من ربه.
الموضوع الأصلى من هنا: http://bayt.el-emarat.com/#showthread.php?p=1614693
فشأن المؤمن مع الأسباب المعتادة أن يقوم بها كأنها كل شيء في الحياة، ثم يتوكل بعد ذلك على الله، لأن كل شيء لا قيام له إلا بإذن الله، فإذا استفرغ المرء جهده في أداء واجبه فأخفق بعد ذلك، فإن الله لا يعاقبه على هزيمة بلي بها، وكثيرًا ما يرتب الإنسان مقدمات النصر ترتيبًا حسنًا، ثم يجيء عون الله أعلى فيجعل هذا النصر مضاعف الثمار.
سادسًا: التضحية والفداء:
ومن دروس الهجرة: أن الجندي الصادق المخلص لدعوة الإصلاح يفدي قائده بحياته، ففي سلامة القائد سلامة للدعوة، وفي هلاكه خذلانها ووهنها، فما فعله علي رضي الله عنه ليلة الهجرة في بياته على فراش رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم تضحية بحياته في سبيل الإبقاء على حياة رسول اللَّه ؛ إذ كان من المحتمل أن تهوي سيوف فتيان قريش على رأس علي رضي الله عنه انتقامًا منه، لأنه سهل للرسول صلى الله عليه وسلم النجاة، ولكن عليا لم يبال بذلك، فحسبه أن يسلم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نبي الأمة وقائد الدعوة.
وكذلك موقف أبي بكر رضي الله عنه، فقد تجلى من معاملته لرسول الله صلى الله عليه وسلم الحب الصادق والتضحية بالنفس، وتجلى هذا في دخول الغار وعند الخروج منه وفي الطريق حينما كان يمشي تارة خلفه، وتارة أمامه، وتارة عن يمينه.
وهذه أمثلة في التضحية والفداء يندر أن نرى لها في الدنيا نظيرًا، ولكنه الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب.
سابعًا: مظاهر محبة النبي صلى الله عليه وسلم واستقبال أهل المدينة له:
تكشف لنا الصورة التي استقبلت بها المدينة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن مدى المحبة الشديدة التي كانت تفيض بها أفئدة الأنصار من أهل المدينة رجالاً ونساءً وأطفالاً.
قال ابن القيم رحمه الله واصفًا هذه المشاعر النبيلة: وبلغ الأنصار مخرج رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من مكة، وقصده المدينة، وكانوا يخرجون كل يوم إلى الحرة ينتظرونه أول النهار، فإذا اشتد حر الشمس، رجعوا على عادتهم إلى منازلهم، فلما كان يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول على رأس ثلاث عشرة سنة من النبوة، خرجوا على عادتهم، فلما حمي حر الشمس رجعوا، وصعد رجلٌ من اليهود على أطم من آطام المدينة لبعض شانه فرأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، مُبيَّضين، يزول بهم السراب، فصرخ بأعلى صوته: يا بني قيلة، هذا صاحبكم قد جاء، هذا جدكم الذي تنتظرونه، فبادر الأنصار إلى السلاح ليتلقوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، وسُمعت الرجة والتكبير في بني عمرو بن عوف، وكبّر المسلمون فرحًا بقدومه، وخرجوا للقائه، فتلقوه وحيوه بتحية النبوة، فأحدقوا به مُطيفين حوله، والسكينة تغشاه، والوحي ينزل عليه: فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير {التحريم: 4}. {زاد المعاد 3-52}
ثامنًا: الأخوة الصادقة وأمثلة نادرة:
قال تعالى: والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون {الحشر: 9}.
ففي مؤاخاة الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار أقوى مظهر من مظاهر عدالة الإسلام الإنسانية والأخلاقية البناءة، فالمهاجرون قوم تركوا في سبيل الله أموالهم وأراضيهم، فجاءوا إلى المدينة لا يملكون من حطام الدنيا شيئًا، والأنصار قوم أغنياء بزروعهم وأموالهم وصناعتهم، فكان أن حمل الأخ أخاه، واقتسم معه سراء الحياة وضراءها، وأنزله في بيته، وأعطاه شطر ماله، فأية أخوة في الدنيا تعدل هذه الأخوة.
لذلك أثنى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على الأنصار ثناءً عظيمًا بعد ثناء الله عليهم فقال: "لولا الهجرة لكنت امرءًا من الأنصار". {البخاري: 3779}،
وقال أيضًا: "لو سلكت الأنصار واديًا أو شعبًا لسلكت وادي الأنصار أو شعبهم". {البخاري: 3778}.
تاسعًا: الهجرة والإصلاح المنشود:
قال العلامة محب الدين الخطيب: لو أننا فهمنا الحكمة التي انطوت عليها حادثة الهجرة، وعلمنا أن كتاب الله الذي نتلوه قد أنحى باللائمة على جماعة من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كانوا في مكة يصلون ويصومون ولكنهم ارتضوا البقاء تحت جناح أنظمة تخالف الإسلام، فلا قوة لهم على تغييرها، ولم يهاجروا إلى قلعة الإسلام ليكونوا من جنوده، لعلمنا أن الإسلام لا يكتفي من أهله بالصلاة والصوم، بل يريد منهم مع ذلك أن يقيموا شرائعه وآدابه في بيوتهم وأسواقهم وأنديتهم، ومجامعهم ودواوين حكمهم، وأن عليهم أن يتوسلوا بجميع الوسائل المشروعة لتحقيق هذا الغرض الإسلامي بادئين به من البيت وملاحظين ذلك في تربية من تحت أمانتهم من بنين وبنات، ومتعاونين عليه مع من ينشد للإسلام الرفعة والازدهار من إخوانهم، حتى إذا عم هذا الإصلاح أرجاء واسعة تلاشت تحت أشعته ظلمات الباطل، فكان لهذا الأسلوب من أساليب الهجرة مثل هذه الآثار التي كانت لهجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأولين.
روى مسلم في كتاب الإمارة من صحيحه عن أبي عثمان النهدي أن مجاشع بن مسعود السلمي قال: جئت بأخي أبي معبد إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد الفتح فقلت: يا رسول الله، بايعه على الهجرة، فقال عليه الصلاة والسلام: "قد مضت الهجرة بأهلها". قال مجاشع: فبأي شيء تبايعه؟ قال: على الإسلام والجهاد والخير. قال أبو عثمان النهدي: فلقيت أبا معبد فأخبرته بقول مجاشع فقال: صدق.
وفي كتب السنة وبعضه في الصحيحين عن عبد الله بن عمرو بن العاص وفضالة بن عبيد بن ناقد الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المهاجر من هجر السيئات". فإلى الهجرة أيها المسلمون، إلى هجر الخطايا والذنوب إلى هجر ما يخالف تعاليم الإسلام في بيوتنا، وما نقوم به من أعمالنا، إلى هجر الضعف والبطالة والإهمال والترف والكذب والرياء ووضع الأشياء في غير موضعها. {من إلهامات الهجرة: ص11- 14}
فهل تأخذ الأمة من دروس الهجرة زادًا إيمانيًا تستعيد به مجدها المفقود؟؟؟؟
وهل نسترد دور الهجرة في حياتنا لنستأنف دورنا المنشود في قيادة البشرية من جديد،؟؟؟؟
هذا ما نأمله ونرجوه.
نسأل الله أن يوفقنا لسلوك سبيل المؤمنين،
وأن يعز الله بنا الدين كما أعزه بالسابقين الأولين من الأنصار والمهاجرين،
وأن يجمعنا بهم مع سيد الأولين والآخرين يوم يقوم الناس لرب العالمين.