بعد أن أنزل الله تعالى قوله "وأنذر عشيرتك الأقربين" صدع النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الحق ، وجمع قريشا ليدعوهم إلى دين الله ، َرَوَى مُسْلِم مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة قَالَ : لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَة " وَأَنْذِرْ عَشِيرَتك الْأَقْرَبِينَ " دَعَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا فَاجْتَمَعُوا فَعَمَّ وَخَصَّ فَقَالَ : ( يَا بَنِي كَعْب بْن لُؤَيّ أَنْقِذُوا أَنْفُسكُمْ مِنْ النَّار يَا بَنِي مُرَّة بْن كَعْب أَنْقِذُوا أَنْفُسكُمْ مِنْ النَّار يَا بَنِي عَبْد شَمْس أَنْقِذُوا أَنْفُسكُمْ مِنْ النَّار يَا بَنِي عَبْد مَنَافٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسكُمْ مِنْ النَّار , يَا بَنِي هَاشِم أَنْقِذُوا أَنْفُسكُمْ مِنْ النَّار يَا بَنِي عَبْد الْمُطَّلِب أَنْقِذُوا أَنْفُسكُمْ مِنْ النَّار يَا فَاطِمَة أَنْقِذِي نَفْسك مِنْ النَّار فَإِنِّي لَا أَمْلِك لَكُمْ مِنْ اللَّه شَيْئًا غَيْر أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبِلَالِهَا " .
ولكنهم – وبعد أن كانوا يسمونه الصادق الأمين – كذبوه وعادوه وردوا عليه دعوته السامية تعصبا لدين آبائهم وأجدادهم واستكبارا في الأرض وخوفا على مصالحهم ومراكزهم.
لكن النبي صلى الله عليه وسلم حمل أمانة التبيلغ وشمر لها عن ساعدين قويين ، ووطن نفسه على الصبر على الأذى فأخذ يتعرض للمشركين حيث كانوا في مسجدهم أو ناديهم أملا في إسلامهم وهدايتهم مبينا لهم التوحيد وما هم عليه من الشرك والضلال ، يسفه آلهتهم وأحلامهم التي هامت بهذه الأوثان الصماء التي لا تضر ولا تنفع.
لكن قريشا لم يرق لها نشاط الرسول صلى الله عليه وسلم وانتشار دعوته حتى بين الخدم والعبيد مما – في نظر المشركين – أفسدهم على سادتهم وزعزع مكانتهم الاجتماعية ، فأخذوا يحتالون لإيقافه وصد سيله الجارف الذي يتهدد كراسيهم وزعامتهم بين العرب.
ومن بين ما احتالوا به ليصدوه أو يوقفوا دعوته ، شكايتهم النبي صلى الله عليه وسلم لعمه وكافله أبي طالب ، الذي كان يحب النبي حبا عظيما ويعلم من أمره ما لايعلم غيره منذ حادثة بحيرا الراهب في الشام.
فقد روى عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه قال : " جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا : إن ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا ومسجدنا فانهه عنا فقال : يا عقيل انطلق فأتني بمحمد ، فاستخرجته من كنس أو قال خنس ، يقول : بيت صغير، فجاء به في الظهيرة في شدة الحر. فلما أتاهم قال: إن بني عمك هؤلاء زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم ، فانته عن أذاهم . فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء فقال : ترون هذه الشمس . قالوا : نعم ، قال : فما أنا بأقدر أن أدع ذلك منكم على أن تشعلوا منه بشعلة ، وفي رواية ( والله ما أنا بأقدر أن أدع ما بعثت به من أن يشعل أحد من هذه الشمس شعلة من نار) فقال أبو طالب: والله ما كذب ابن أخي ، فارجعوا راشدين" . رواه البخاري في التاريخ الكبير ورواه أبو يعلى وإسناده صحيح .
الموضوع الأصلى من هنا: http://bayt.el-emarat.com/#13408#post110524
هذا ثبات رسولكم على الحق والدعوة إليه يا مسلمون ، لم تأخذه لائمة في الله ، ولم يثنه ذو نسب أو قرابة ، ولم تشفع عنده محبة حبيب أو رجاء قريب . هذا ثبات رسولكم أيها العلماء يا ورثة الأنبياء ، لم يجامل الجاهلية أو يتنازل لها ، ولم يرجف قلبه لطغاة قريش ، بل قالها مجلجلة أنه لن يترك هذا الأمر الذي بعث كما أنهم لا يستطيعون أن يشعلوا من الشمس شعلة ، وانظر أيها القاريء العزيز كيف يأسهم من نيل مرادهم إذ أرادوه على ترك هذا الدين ، كيأسهم من استشعال شعلة من الشمس ، فكم كان لذلك وقع كبير على المشركين حتى قال أبو طالب :"والله ما كذب ابن أخي …." ويا أصحاب القضايا العادلة والأفكار الخيرة في العالم كله ، إن لكم في نبينا انموذجا إنسانيا راقيا في الثبات على الحق والعدل والخير والصبر على لأواء الطريق من أجل تحقيق كلمة الحق ، ولقد قذف الله الباطل بالحق فدمغه فإذا هو زاهق ونصر نبيه صلى الله عليه وسلم نصرا عزيزا .
إن مواجهة الباطل والجاهلية بالفكر والحجة والبيان لهو من أشد واجبات المسلمين علماء ودعاة في كل الظروف والأحيان . ويالله كم في البيان والحجة من قوة وتأثير وسحر للألباب ولذلك قال الله تعالى " وجاهدهم به جهادا كبيرا" أي ببيان القرآن وحججه الراسخة. أما قوة السنان فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يلجأ إليها في الفترة المكية لضعف المسلمين وقلة أعدادهم وهوانهم على الناس .
ثم انظر إلى هذه الرحمة المتدفقة من هذا الرسول الكريم في حرصه على هداية قومه ، حتى أنه من كثرة تعرضه لهم والتحدث إليهم تأذوا منه فشكوه إلى عمه ، بأبي هو وأمي خاطبه ربه فقال " لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين" الشعراء آية 3.
وفي رواية ابن عباس عند موت أبي طالب" فقال ابن أخي ، ما لقومك يشكونك ؟ قال: أريدهم على كلمة تدين لهم بها العرب وتؤدي إليهم العجم الجزية . قال: وما هي ؟ قال : لا إله إلا الله ."
فأي عزة زهد بها هؤلاء المشركون ؟ وأين ابتغوا العزة قاتلهم الله ؟ إن العزة لله جميعا. إن العرب عندما أخذوا بهذه الكلمة علما وعملا أعزهم الله ورفع قدرهم ، ساسوا بها الدنيا شرقا وغربا ، وعندما نبذها العرب اليوم إلا قليلا من المؤمنين أذلهم الله ، جعل للكافرين عليهم سلطانا مبينا ، فحكموهم ونهبوا ثرواتهم واحتلوا أراضيهم وغزوهم ثقافيا واقتصاديا ، ولولا أن هذا الدين محفوظ بحفظ الله له ، لطمست معالمه وهوت أعلامه وغدا المسلمون في ضلال مبين.
إذا " لا إله إلا الله " مصدر قوة وبعث لهذه الأمة إذا فقهت مراداتها واستوعبت مقتضياتها ، ولم يكتف المسلمون بترديدها جافة ميتة على ألسنتهم يعدون عشرات منها على خيوط مسابحهم.
مما يستفاد من هذه القصة :· وجوب الدعوة إلى الحق والتوحيد والثبات على ذلك .
· أن العزة والقوة والكرامة في الإيمان بكلمة التوحيد واتباع مقتضياتها.
· أن المسلم رحيم بالناس يسعى إلى هدايتهم لينقذهم من النار.
· عدم اليأس من الناس وتكرار دعوتهم والتعرض لهم في أماكنهم.
· أن الفكر والحجة واليبان لها وقع أحيانا أشد من وقع السنان ضد أعداء الله.
الموضوع الأصلى من هنا: http://bayt.el-emarat.com/#showthread.php?p=110524
· فِي هَذَا الْحَدِيث دَلِيل عَلَى أَنَّ الْقُرْب فِي الْأَنْسَاب لَا يَنْفَع مَعَ الْبُعْد فِي الْأَسْبَاب , وَدَلِيل عَلَى جَوَاز صِلَة الْمُؤْمِن الْكَافِر وَإِرْشَاده وَنَصِيحَته، ذكره القرطبي في تفسيره.
· أن كلمة التوحيد هي معقد الولاء عند المسلمين بها يوالون ويعادون ، يحبون ويبغضون .